Discours de Madame la ministre
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،
السيدات والسادة الإطارات،
السيدات والسادة الضيوف الكرام من مؤسسات الدولة،
السيدات والسادة أفراد أسرة البريد والمواصلات،
أسرة الإعلام،
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته،
يسعدني أن أشارككم أشغال هذه الندوة التاريخية، التي تعنى بدراسةإحدى أهم المراحل التي مر بها البريد ومرت بها المواصلات في الجزائر، مرحلة استرجاع السيادة الوطنية على القطاع. إذ كان التحدي آنذاك كبيرا، وكان لزاما على الجزائر المستقلة رفعه لإتمام سيادتها بكل أبعادها. كما كان لزاما النهوض بقطاع البريد بعد مخلفات الاحتلال، وخوض مسار التحول في مجال الاتصالات.
لقد تميز القطاع غداة استرجاع السيادة الوطنية ببنى تحتية هشة، كانت مكيفة خصّيصا لخدمة المصالح التوسعية للمحتل عبر توفير الخدمة للمعمرين فحسب، اذ اتسمت شبكتا البريد والهاتف بالمحدودية، واقتصرتا على قاطني المدن فيما أقصي منهما سكان القرى، بينما اقتصرت وجهات المواصلات الهاتفية الدولية على ثلاث دول فقط.
كما أنه فيما يخصّ الموارد البشرية، فقد خلفت مغادرة موظفي إدارة المحتل صعوبة في تأطير القطاع، فعلاوة عن العدد الضئيل للمهندسين والتقنيين، تميز الأعوان الذين تم توظيفهم بضعف التكوين ونقص الخبرة المهنية.
غير أنّه وأمام هذه المعطيات الصعبة، أصرّ بنات وأبناء الجزائر من موظفي القطاع حينها على أن يكسبوا الرهان، إثباتا لسيادة الجزائر بصنيع أبناءها، وضمانا لاستمرارية الخدمات. بل وتعدوا ذلك الى السعي الحثيث لتضييق الفجوة الموجودة آنذاك بين المدن والقرى، من خلال إنشاء مؤسسات بريدية جديدة وتطوير الشبكات للتكفل بالمناطق النائية، إضافة إلى ضمان تبادلات منتظمة وعصرية للجزائر المستقلة السيدة مع كل دول العالم.
أيتها السيدات أيها السادة،
إن استذكار مآثرسلفنا في استرجاع السيادة على القطاع لا يجب أن يبقى حبيس رفوف الكتب أو أن ينحصر في نقاشات ومحاضرات عبر منابر مثل ندوتنا هذه، وإنما حق له أن يترجم إلى إلهام ينير دربنا كل يوم، إذ أن التحدي لا يزال قائما، وإن كسبنا معركة، فهناك أخرى لا تزال قائمة.
بالأمس كان التحدي هو ضمان استمرار خدمات البريد والمواصلات، رغم الخبرة المحدودة وشح الموارد بعد أن ترك لنا المحتل إرثا مثقلا بالعراقيل، ووطنا منهكا بعد حرب التحرير وسنوات من الحديد والنار. أما اليوم فالتحدي هو ضمان تطور خدمات البريد والمواصلات، ونحن نقف على مشارف عصر جديد، لعلنا لا ندرك بعد مدى آثار مستجداته على مجتمعنا، مع أننا متيقنون من ضرورة مسايرته واكتساب قواعد العمل بما يحمله في طياته من تطوّر.
من المفارقات أن نقف على مشارف هذا العالم الجديد، وبدل أن يكون شغلنا الشاغل كيف نولج إليه بلدنا دون تأخير، نجد الحديث الطاغي على الساحة، لا يتجاوز سقف الأزمة الظرفية التي ترتبت عن انخفاض أسعار البترول.
الكل اليوم لا حديث له إلا عن الأزمة، وعن تداعياتها المأساوية. فلا نفيق إلا والحديث عن البترول، ولا ننام إلا والسؤال عن أسعاره. فكأن الكل يخشى أن تزول الجزائر بزوال المحروقات، أو أن تنقص سيادتها أو أن تجف أنهارها أو تتداعى جبالها وتحترق غاباتها.
إخواني أخواتي، لا أزمة أعتى من الاحتلال، وقد طردناه بالسلاح، ولا مأساة أقسى من الفتنة وقد اطفأناها بالمصالحة. ولعلكم تشاطروني الإيمان بأن تداعي أسعار البترول هو مشكل وجب علينا حله وليس نكبة يجوز لنا الجزع والعويل خشية منها.
اليوم، خمس وخمسون سنة مرت على استرداد سيادتنا. قضيناها، نحن أبناء وبنات الجزائر، نبني ونشيد، نرتب ونقنن، ندير ونسير، وقد نخطئ ونصيب، وإن أخطأنا لعلنا أن نصحح. فإن كنا قد خلصنا بعد خمس وخمسين سنة بدولة قوية مؤسساتها، محروسة حدودها ومضمونة هيبتها بين الأمم، فاليوم علينا مواصلة المسار بنفس الهمة التي بدأنا بها. علينا البحث عن مواطن الضعف في هياكلنا وتداركها، والبحث عن المصادر المحتملة لخلق القيمة المضافة لاقتصادنا وتفعيلها. علينا استشراف المستقبل والاستعداد له.
فالواقع أيها الحضور الكرام هو أن الخطر المحدق بنا اليوم لا يكمن أبدا في تراجع أسعار المحروقات، بل يتجسد في الشكل الجديد للاقتصاد الذي يشرق علينا عبر التكنولوجيات الجديدة، والتي وجب أن ندرك أنها فعلا كالشمس: منافعها لا تحصى، ولا حياة بدونها، لكنها تحرق كذلك.
نحن اليوم، إخواني أخواتي، وبفضلكم أنتم اسرة البريد والمواصلات، نعمل على تأهيل بلدنا للولوج إلى العالم المتصل. فماذا أعددنا له؟ إن نمط العيش كما عهدناه سيتغير في العشرية المقبلة أكثر مما تغير في الألفية السابقة، أو ربما أكثر من ذلك.
تذكرون طبعا قصة عمال النسيج حين ثاروا في أوروبا عند اختراع آلات النسيج خلال الثورة الصناعية، إذ فقدوا مصدر قوتهم، وكان يستبدل المئات منهم بآلة واحدة. ولم يتوازن الاقتصاد ولا المجتمع إلا بعد أن استحدثت نفس الثورة الصناعية أشكالا جديدة من مناصب الشغل، وتأقلمت معها القوة العاملة. فكيف اليوم بالثورة الرقمية، والمستشرفون يتحدثون عن اختفاء أغلب المهن في العشرية القادمة؟ حتى قطاع الخدمات سيعرف رجة كبيرة، بدأت فعلا في بعض أنحاء العالم، حيث تغيرت طرق المعاملات وأصبحت كبرى الشركات وأكثرها تحقيقا للربح، تنحصر في موقع افتراضي يسمح بالولوج الى تطبيقات رقمية. أكيد أن مهنا جديدة ستولد،حسب تطور التكنولوجيات. وأكيد أن المجتمع سيساير تطور أنماط المعاملات وسيتماشى مع ما يحمله التطور.
لكن يكمن الخطر في كوننا لم ندرك بعد أنه إن كان في العالم من حولنا حدودا جغرافية وسياسية نحمي بها مواردنا، عمالنا واقتصادنا، ففي العالم الافتراضي لا حدود تذكر. وقد لا نفيق حتى نضحي مجرد سوق استهلاك، زبائن لمتعاملين ليس لهم وجود فعلي على أرضنا، ولا إضافة مهما كانت ضئيلة في اقتصادنا. نعيش هذا جزئيا عبر الشبكات الاجتماعية ومواقع الترفيه أو الثقافة. لكن سنراه أكثر مع شركات الخدمات على الخط، خاصة إن لم نستحدث محتوى وطنيا يغذي المبادلات التجارية محليا.
نحن، اخواني أخواتي من اسرة القطاع، نجد أنفسنا في الصدارة، تكليفا وليس تشريفا. في صدارة الرهان الجديد للاقتصاد الرقمي، كون هذا القطاع هو من يملك أدوات تطوير البلاد ودمجها في مجال التكنولوجيات العصرية.
اليوم نفخر كون قطاع البريد والمواصلات يعمل بسواعد جزائرية، ويدار بكفاءات جزائرية، وعلى رأسه شابات وشباب من أعماق الجزائر، ومن خريجي معاهدها وجامعاتها. وفخر أكبر لنا أن عمال القطاع يثبتون يوما بعد يوم وطنيتهم وحرصهم على الاستقرار واستمرار الخدمة العمومية للجزائريين. فرغم كل المغالطين والمشاغبين، أنتم تعملون في هدوء ورزانة، محافظين على أملاك الشعب، وعلى مكتسباته. لا يصدكم سفيه عن المضي في درب البناء والتشييد. فشكرا لكم. شكرا باسم كل جزائري يرتفق مكاتب البريد، أو يبحر عبر الشبكة.
فاذ لا ننكر أن الدرب لا يزال طويلا لنصل بالقطاع إلى المستوى الذي نرضاه لجزائرنا، لا نغفل أبدا أنكم الطاقة التي تدير العجلة، وأن عملكم اليومي والتزامكم تجاهه هو سر أي نجاح يتوج مؤسساتنا. وأنتم تعلمون كما أعلم، أنّ التفاني وإتقان العمل هما فقط ما يجدر بنا أن نقدم لأبناء وطننا، وكل من قال غير ذلك فليس منا.
من قطاع البريد والتلغراف والهاتف غداة الاستقلال، إلى تكنولوجيات الإعلام والاتصال، إلى رهان الرقمنة. التحدي جميل إخواني أخواتي. وإني أهيب بكم كلكم إلى التجند اليوم أكثر من أي وقت مضى، لخوض معركة الرقي بالقطاع وتطويره. التجند بالعمل. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم، ورسوله والمؤمنون.
فالميدان لازال ورشة مفتوحة: تعميم الخدمة العمومية للبريد والمواصلات تبقى من التزاماتنا الراسخة، وتطويرها في كل شبر من ربوع الوطن مهما بعد يظل في صلب غاياتنا، ولعل دعوة القائمين على هذا المنتدى لقدماء القطاع ولمتربصيه كليهما، يترجم معاني التواصل واستمرار توهج المشعل الذي لابد أن يميز أسرة البريد والمواصلات.
فإننا وفي شهر الثورة، حقيق بنا أن نقف وقفة إجلال أمام أولئك الذين حملوا المسؤولية التاريخية وأوقدوها شعلة عارمة وأغلبهم لم يجاوز الثلاثين من العمر بل ومنهم من كان في العشرين. وإن شباب القطاع اليوم هو المحرك الأساسي لديناميكية تطويره ولضمان دوام سيادته، فكما استرد أسلافنا الحرية المسلوبة، فشباب اليوم مطالب بمثل تضحياتهم على الأقل: أن يكون صانع أفعال لا مجتر أقوال، وأن يعمل في صمت لا يدوي فيه إلا صدى إنجازاته.
إن الحصن الذي من شأنه أن يضمن أمننا الاقتصادي لا ينبغي أن ينحصر في استغلال ما حبانا الله به من ثروات هي ناضبة لا محالة، وإنما الرهان اليوم، كل الرهان، في الأخذ بزمام العالم الرقمي، والتحكم في التكنولوجيات التي أضحت سبيل كل تطور ونجاح أي سياسة.
كلـي ثقـة في جميع عمال القطاع، أنهم عازمون باقتدار على رفع التحدي بـنفس جـدیـد وآفـاق جـدیـدة تؤكد القطيعة مع الرداءة.
وفي الأخير، لايسعني إلا أن أتقدم بجزيل شكري وخالص امتناني لمن سبقونا في هذا الميدان، في كل أرجاء الوطن، لا سيّما منهم الذين أبوا إلا أن يشاركونا أشغال هذه الندوة، متمنية لهم ولسائر المتقاعدين دوام الصحة والعافية،كما أترحم على من التحق منهم بالرفيق الأعلى، أنزلهم الله من أعلى منازل الجنة، هم وشهداءنا الأبرار رحمهم الله.
شكرا على كرم إصغاءكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.